ينقسم الناس بحسب الرسالات الإلهية ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قوم لم يؤتهم الله تعالى كتاباً، ولم يرسل إليهم رسولاً، وهم الذين تحدث عنهم الله في سورة يس، مخاطبا رسوله محمدا بقوله سبحانه:
لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [6]
وبقوله عز وجل في سورة القصص:
وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [46]
وهؤلاء القوم سماهم الله بـ [الأميين] وهم الذين بعث الله فيهم رسوله الخاتم، فقال تعالى في سورة الجمعة:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [2]
وهذا الرسول [الأمي] هو الذي كان ينتظره أهل الكتب السابقة، كما بشرت به التوراة والإنجيل؛ قال تعالى في سورة الأعراف:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ..." [157]
ثم تدبر قوله تعالى بعدها يدعو الناس جميعا إلى اتباع هذا الرسول الخاتم:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً... فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ... [158].
القسم الثاني: قوم أتاهم الله الكتاب وأرسل إليهم الرسول، كاليهود والنصارى. يقول الله تعالى في سورة آل عمران [20] مخاطبا هؤلاء القوم وهؤلاء [الأميين]:
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.
ولقد كان اليهود [أهل الكتاب] يفتخرون على العرب [الأميين] ويستحلون ظلمهم وأخذ أموالهم على أساس أن لا حرمة لهم في كتابهم. يقول الله تعالى في سورة آل عمران:
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [75]
تدبر قول الله تعالى: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ". فالآية بيان للعلة التي من أجلها كانوا لا يؤدون الأمانات إلى أهلها من العرب [الأميين] ويميلون إلى خيانتهم. إذن فنسبة الرسول، صلى الله عليه وسلم، إلى الأميين كانت بسبب انتمائه [نسبا] إلى أمة ما آتاها من نذير من قبل بعثته. ولبيان أن من هؤلاء الأميين من أشركوا بالله فكانوا هم وأهل الكتاب سواء يمثلون جبهة كفر واحدة، قال الله تعالى في سورة البينة:
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [1] رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً [2] فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [3]
ونلاحظ أن الآية [2] تبين أن رسول الله كان يتلو صحفا، وهذا يعني أن كلمة [تلاوة] لا تعني فقط التلاوة عن ظهر قلب، وإنما تعني أيضا التلاوة من الصحف المنشورة أمام رسول الله، وهذا المعنى لا يقل في حجيته عن الأول. فما أهمية تدوين هذا القرآن في الملأ الأعلى إن لم ينعكس على رسول الله وعلى قومه واقعا حيا بجميع مميزاته، وخاصة ميزة التدوين في الصحف؟!
والقسم الثالث: قوم لا يعلمون عن الكتاب الإلهي إلا معارف سطحية، وتحريفات موروثة عن الآباء، وأحاديث مفتراة على رسلهم، مدونة في الكتب على أنها من عند الله. فيقول الله تعالى في سورة البقرة:
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ [78]
لقد بين الله أن هذه الأماني ما هي إلا محض افتراء بنفي العلم عن هؤلاء [الأميين] بقوله تعالى "وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ". والأماني بالتشديد جمع أمنية وهي تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر، ومنّاه أي وعده بشيء غير موجود لحظة الوعد. وهنا يدخل في إطار هذا المعنى الأعاجيب والأكاذيب، لأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون الحدث موافقا لخبره وهو ليس كذلك في واقع الأمر.
وكذلك المعتقدات التي يحسبها الناس حقا وهي ليست بحق. وما يحسبه الناس من الدين وهو ليس منه. وما رواه الرواة ووضعه الوضاعون على أنه من الوحي الإلهي وهو ليس كذلك. ومن يزعمون أنهم على علم بالكتاب وليسوا بعلماء، وكل ذلك من حال الأمم التي ضلت صراط ربها المستقيم. يقول الفراء: "قال بعض العرب لابن دَأْب وهو يحدّث الناس: أهذا شيء رويتَه أم شيء تَمنَّيته، يريد افتعلته. وكانت أحاديث يسمعونها من كبرائهم ليست من كتاب الله. [من معاني القرآن] اهـ.
وإن أول عمل يقوم به رجال الدين في هذه الأمم هو تدوين توجهاتهم الفكرية الضالة في الكتب وينسبونها إلى الله تعالى أو إلى رسله. لذلك جاءت الآية التالية تحذر تحذيرا شديدا من سوء عاقبة هؤلاء الذين نقلوا المرويات المفتراة على الله ورسله، ودونوها في الكتب، وقالوا إن هي إلا وحي أوحاه الله إلى رسله. فقال تعالى:
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [79]
وفي استخدام أداة التراخي [ثم] إشارة إلى قبح هذا الافتراء، وعظم خبثه، فقال تعالى "ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ". ثم بين العلة الحاملة لهم على ذلك فقال "لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً". ومن هذه الافتراءات قولهم بعد الآية السابقة:
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [80]
ومما سبق نعلم أن [الأمِّي] في السياق القرآني ليس هو الذي لا يعرف القراءة والكتابة، وإنما هو ممن لم يرسل الله إليهم رسولا، فلم يكن له كتاب إلهي يتبعه [وقد يكون ممن يقرأ ويكتب]. ولقد كان رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، من هؤلاء [الأميين]. أو هو ممن أرسل الله إليهم رسولا وأمرهم باتباع كتابه، ولكنهم لم يرثوا عن آبائهم هذا الكتاب، وإنما ورثوا كتابا محرفا، ومرويات من وضع البشر منسوبة إلى الله تعالى.
والسؤال الآن: هل كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقومه، من الأميين [أي الذين لا يعرفون القراءة والكتابة]؟ وهل هذا هو معنى [الأمية] في قوله تعالى في سورة الجمعة:
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [2]
هل يعقل أن تكون الآية الدالة على صدق الرسول [في بلاغه عن الله] كتابا يتلى، وتنسخ منه النسخ، وفيه خبر مفاده أنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثله، وهم أصلا لا يعرفون القراءة والكتابة؟! ثم هل يعقل أن يأتي القرآن ببيان أن أهم أدوات تحصيل العلوم هي القراءة والكتابة ويأمر رسوله أن يبينها للناس، فإذا به يجهلها؟! كيف والله تعالى القائل في سورة العلق:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [1] خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [2] اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [3] الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [4] عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [5]
هل يعقل أن يمن الله على البشرية بنعمة القراءة والكتابة ثم يحرم رسوله منها؛ خشية أن يظن القوم أن هذا القرآن الذي أرسل به من تأليف رسوله؟! هل لو كان رسول الله أبلغ بلغاء العرب، وأفصح فصحاء العرب، هل كانت شبهة أن يكون هذا القرآن من عنده أقوى مما لو أنه كان لا يعرف القراءة والكتابة؟! قطعًا لا، فماذا فعل فصحاء وبلغاء العرب؟ هل استطاعوا أن يأتوا بمثله؟! إذن فما علاقة أمية القراءة والكتابة بشبهة الإتيان بمثل هذا القرآن حتى يدافع كثير من علماء المسلمين عن هذه الأمية، وأنها صفة ظلت ملازمة له حتى توفاه الله تعالى؟!
إن من العلماء الذين يرون أن القول بأمية الرسول للقراءة والكتابة قول غير صحيح، فضيلة الشيخ محمد الغزالي، حيث قال في كتابه [كيف نتعامل مع القرآن]: "وفي رأيي أن الكلام في بعض رجال الصحيحين له أصل، والذين رفضوا بعض أحاديث في البخاري ومسلم لهم عذرهم، كل القراء تقريبا وكل المصاحف تقول إن المعوذتين سورتان مكيتان وكلام البخاري يفيد أن المعوذتين مدنيتان ومن آخر ما نزل"!!! ثم قال: "فأمة تستقبل القرآن لا بد أن تكون أميتها قد زالت بهذا القرآن نفسه.. فإذا كان القرآن يدل على مصادر معرفة في أساس المنطق الحديث، وأساس حضارة أوروبا، فكيف تكون الأمة أمية؟ هذا أمر مستبعد.. ".
وقال الغزالي في ص198: "وأمر الإصرار من بعض العلماء على [الأمية] عجيب!! وهو ما أدى إلى التعسف والتوقف عند بعض المفهومات وعدم تجاوزها؛ إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب!! لكن هل هذا يعني أن تبقى الأمة أبدا لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب؟! وهل هذا يعني أيضا أن نبقى بعيدين عن الكسب العلمي، وكانت أول آية نزلت تفرض التعلم والتحول إلى القراءة والكتابة؟! ثم قال: "ويخيل إليَّ أن المقصود [بالنبي الأمي] النبي الذي خرج بعيدا عن الدائرة التي كان يؤخذ منها الأنبياء، وهي إسرائيل، وإن كان هناك أنبياء عرب". اهـ
وهناك من العلماء من يرون احتمال أن تكون أمية القراءة والكتابة قد زالت عن رسول الله ببعثته، إما كمعجزة، وإما بتعلمه القراءة والكتابة. فيقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في خواطره حول قول الله تعالى في سورة العنكبوت "وما كنت تتلو من قبله من كتاب" يقول: "هذه تحتمل أن يكون قد تعلم الكتابة والقراءة بعد بعثته؛ لأنه لا يعقل أن يكون هناك من أتباعه من هو أفضل في صفاته". اهـ
وعندما نتدبر قول الله تعالى في سورة الفرقان:
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [5] قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً [6]
نعلم أن كلمة "اكتتبها" تحتمل معنيين: إما كتبها عن الآخرين، أو كتبها الآخرون له. والسياق القرآني يرجح أن العرب كانوا على علم بأن رسول الله كان يقرأ ويكتب عندما بدأ يبلغهم رسالة ربه، وعندما نطق بأسماء الحروف المقطعة التي في أوائل السور. فكيف نطق بهذه الحروف، ثم كيف كتبها كتبة الوحي بمسمياتها لا بأسمائها التي نطق بها، والمعلوم [عند علماء الألسن] أن الأمي [الذي لا يعرف القراءة والكتابة] حين ينطق ينطق بمسميات الحروف لا بأسمائها؟!!
مثال ذلك: كلمة "كتب" يستوي في النطق بها الأمي والعالم لأن الناس جميعا يتحدثون بمسميات الحروف [ك، ت، ب] لا بأسمائها [كاف، تاء، باء] ولا يعرف أسماء حروف الكلمة إلا المتعلم الذي يستطيع أن ينطق بها منفصلة [كاف، تاء، باء]. فكيف نطق رسول الله بأسماء الحروف المقطعة في أوائل السور وهو أمي لا يعرف القراءة والكتابة؟!! وإذا كان الله تعالى هو الذي أنطقه، فمن الذي علم كتبة الوحي أن ما نطق به رسول الله من أسماء هذه الحروف تكتب في المصحف بمسمياتها لا بأسمائها؟! وكيف تأكد رسول الله، وهو لا يعرف صور حروف المعجم، من أن كتبة الوحي قد كتبوا الحروف بمسمياتها لا بأسمائها التي نطق بها؟!
مثال آخر: إذا قارنا بين الحروف في أوائل سورة البقرة "الم" وأوائل سورة الشرح "ألم" وجدنا أننا في سورة "الشرح" ننطق بمسميات الحروف كلمة واحدة متكاملة فنقول: "ألم" لا بأسمائها، أما في سورة البقرة فنحن ننطق بأسماء الحروف مقطعة ونقول: "ألف، لام، ميم" وأسماء الحروف لا يعلمها الأمي وإنما يعلمها من تعلم حروف اللغة العربية. فهل عندما خاطب الله تعالى أهل الكتاب بقوله في سورة الأعراف:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [157]
هل وصف الرسول بالأمي في التوراة والإنجيل كان لبيان عدم معرفته بالقراءة والكتابة أم كان لبيان أن بعثته ستكون في قوم ما أتاهم من قبله من نذير، لذلك قال الله تعالى في سورة العنكبوت:
وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [48]
فقوله تعالى: "وما كنت تتلو من قبله من كتاب" يعني أن الكتاب المتلو في هذا السياق هو لا شك من جنس الكتاب المتلو من بعده. أي أن السياق القرآني يتحدث عن عدم معرفة رسول الله بالكتب الإلهية قبل بعثته، خاصة وأن الإتيان بكلمة "تتلو" وعدم الإتيان بكلمة "تقرأ" يؤكد ذلك، فالقرآن لم يستخدم مادة التلاوة [عند حديثه عن الكتب] إلا لبيان تلاوة نصوص الكتب الإلهية. بل وقد يفهم من سياق هذه الآية، وجملة [من قبله] أن رسول الله [من بعد] بعثته قرأ وكتب.
وعندما طلب المشركون من رسول الله يأتي بغير هذا القرآن أو يبدله، فإن هذا يعني أنهم على علم بأنه يكتب. وعندما رد عليهم الرسول لم ينف عن نفسه علمه بالكتابة أو القراءة وإنما نفى أن يبدله من تلقاء نفسه. تدبر قول الله تعالى في سورة يونس:
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [15] قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [16]
وتدبر قوله تعالى: "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ".
إن تلاوة رسول الله لهذا القرآن، وهو لم يكن معروفا بين قومه أنه من أهل العلم والحكمة، ولا من أهل الخطابة وبلاغة القول، لدليل على أنه مرسل من قبل الله عز وجل. لذلك جاء رده على قومه يحمل هذا المعنى "فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ". فلم يكن في تطور نشأته من المقدمات ما يؤهله لهذه الحالة الربانية المحضة التي ظهرت عليه فجأة. لذلك بدأ حديثه معهم بقوله: "قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ". ومن إحكام وبلاغة الكلمة القرآنية استخدام كلمة "التلاوة" في هذا السياق والتي تعني قراءة مكتوب أو استعراض محفوظ بنصه وحرفه. وهي هنا في هذا السياق تعني إبلاغ الرسول كلاما ليس من عنده ولا من تأليفه. لذلك عقب بقوله "أَفَلا تَعْقِلُونَ". أي أفلا تعقلون أن مثلي الذي لم يخالط العلماء وأهل البلاغة زمنا طويلا، ثم يأتي بهذا الكتاب البديع في بلاغته والمحكم في معانيه، ألا يدل ذلك على أن مثل هذا الكلام لا يكون إلا وحيًا من عند الله.