إن التقوى - ككل المعاني العامة في الإسلام - ليست درجة واحدة بحيث "إما أن توجد كلها وإما أن تفقد كلها"، وإنما هي درجات متفاوتة، فهناك التقيُّ والأتقى، كما نقول: بارٌّ وأبرُّ، خيِّرٌ وأخير، صالح وأصلح.
وحتى نستطيع الصعود والارتقاء في سلّم التقوى، لا بد من التعرف على الطريقة التي يتم بها ذلك، فإذا حصلت المعرفة بالطريقة اجتهدنا في اكتشاف الوسيلة التي تلزمنا لتحقيق هذه المعرفة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة) [المائدة: 53].
فالصعود والارتقاء في مدارج التقوى، هو زيادة في التقوى، والنزول والانخفاض نقصان فيها، إذ التقوى تزيد وتنقص كما يزيد وينقص الإيمان.
ومن أجل التعرف على الطريقة التي يتم بها ذلك، يمكننا أن نتصور مستويين اثنين: الأول أفقي، والثاني عمودي.
المستوى الأفقي:
وهو المستوي الذي يشمل عناصر التقوى، أو صفات المتقين. ففي هذا المستوى يرتبط ازدياد التقوى ونقصانها عند الإنسان، بعدد الصفات التي يمتلكها أو يفتقدها هذا الإنسان، فكلما ارتفع عدد الصفات التي هي من صفات المتقين لديه، كان ذلك زيادة في تقواه، وكلما انخفض هذا العدد كان ذلك نقصاناً في نصيبه من التقوى، ونقصاناً - بالتالي - في حظّه مما وعد الله به المتقين.
فإذا كان الوفاء بالعهد، وإتقان العمل، والإصلاح، ثلاث صفات من صفات المتقين على سبيل المثال؛ فإن من حاز صفتين من هذه الصفات كان أعلى في مراتب التقوى ممن اقتصر على صفة واحدة؛ ومن حاز الصفات الثلاث كان أتقى ممن اقتصر على اثنتين.
وإن من شأن صلاح التقوى في هذا المستوى، أن تعطي صاحبها صفة التوازن، التي تعينه على أداءٍ وظيفيٍّ أفضل في سائر جوانب حياته. ومن شأن فساد التقوى في هذا المستوى، أن تفقده صفة التوازن، فينحدر في منزلقات الخلل والاضطراب، مما يؤدي به إلى خلل وظيفيٍّ يتناسب مع درجة فساد تقواه في هذا المستوى. وواضح أن من شأن الخلل الوظيفي أن يخرج إلى الوجود مخلوقاً مشوّهاً، يزداد تشوّهه وينقص مع شدة وضعف هذا الخلل الوظيفي الذي أصيب به.
وينبغي أن نعترف أن هذا الخلل والاضطراب، وهذا الخلل الوظيفي، وهذا التشوّه كثير جداً في حياة المسلمين، وهو ما ينبغي أن نتنبه إليه، ونعمل على علاجه، حتى نعيد إلى الحياة الإسلامية توازنها، وننقل المسلم إلى دائرة التوازن والأداء الوظيفي السليم وما ينبني عليه من كمال وجمال في التفكير والشعور والسلوك، حتى يصحَّ أن ننظر إليه فنذكر قول الله تعالى: (صبغة اللهِ ومَنْ أحسنُ منَ اللهِ صِبْغَةً ونحنُ له عابدون) [البقرة: 138]·
فليس قليلاً ولا نادراً أن نرى أناساً، يحسنون صلاتهم، فيؤدّونها كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ويؤدّون المناسك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"، ويتحرون أكل اللحوم المذبوحة على الطريقة الإسلامية مثلاً، وهم مع ذلك وغيره من الخير الكثير، لا يتورّعون أن يكونوا سبباً في نفور الناس من هدي الله ورسوله، بما يجترحونه في فظاظة في المنطق والأداء، وغلظة في القلب، لو كانتا في النبي صلى الله عليه وسلم لانفضّ الناس من حوله: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) [آل عمران: 159]. فنراهم سراعاً إلى التعسير، نُفُراً من التيسير؛ مولعون بالخشونة، راغبون عن الليونة؛ بعيدٌ عن جليسهم حِلْمُهُمْ وعفْوُهم، قريبٌ إليه حمقُهم ونقمتُهم، يفرّون من تصحيح الأخطاء في الأعمال، وهو عمل الدعاة المصلحين، إلى اتهام القلوب والنيات وهو ما لا يعلمه إلا رب العالمين. وبالجملة فليس قليلاً ولا نادراً أن نرى في الرجل الواحد صلاة كصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قضيت الصلاة رأينا شراسة في الخُلق، وفساداً في المنطق، وسمتاً في المجالس ليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب أو قرابة؛ ولا يصح في ميزان الإسلام أن تكون الصلاة بديلاً عن حسن الخلق، وسلامة المنطق، والسمت الحسن [ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن لباس التقوى هو السمت الحسن]، وإنما هي حلقات متصلة يدعم بعضها بعضاً، ويؤدي بعضها إلى بعض، حتى يخرج إلى الوجود ذلك الإنسان المسلم الذي يخطىء ويصيب، ولكنه يتوب ويستغفر، ولا يبلغ خطؤه أن يشوِّه منظره، ويُخلَّ حركته ويعطل أداءه المرسوم في ممارسة الشهادة على الناس، من موقع الحضور والاقتدار والأهلية، لا من موقع الغيبوبة والعجز والادّعاء.
فالمطلوب من المسلم أن يحافظ على أعلى نصيب من صفات المتقين، حتى يحافظ على التوازن المطلوب في شخصيته وحركته، لأن غياب بعض هذه الصفات يفقده بعض توازنه، فإذا ازداد عدد هذه الصفات أو العناصر الغائبة حتى تبلغ حداً معيناً، فُقد التوازن في الشخصية المسلمة، واضطربت الحركة وتعثرت الخُطا، حتى يتعذر الاستمرار أو يستحيل، وتتوقف الحياة الإسلامية عند اهتمامات صغيرة في الدين والحياة، وتحلّ الشكلية محل الجوهرية، مع ضرورة التوازن بين الشكل والجوهر، ويعجز المسلم عندئذ عن أداء الأمانة على مسرح الحياة، ويتحوّل إلى جمهرة المتفرجين في المقاعد الخلفية، كل ما يتمناه أن يُسمح له بـ "الفرجة". وهذا ما نراه من حال كثير من المسلمين اليوم، حتى لينكر المرء أن يكون هؤلاء الناس من صنع هذا الدين.
المستوى العمودي:
وهو المستوى الذي تتأصل فيه عناصر التقوى أو صفات المتقين وتتجدَّر في نفس الإنسان وشخصيته وسلوكه ففي هذا المستوى يهتم الإنسان بكل صفة مستقلة عن الصفات الأخرى، ويحاول أن ينميها ويرقيها ويزكيها، حتى تصبح شجرة قوية مستعصية على العواصف والرياح، ثابتة في الأرض، صاعدة في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. فإذا تمكنت الصفة في نفسه وقويت، ارتفعت درجته في سلَّم التقوى، وإذا تسطَّحت هذه الصفة وضعفت، انخفضت درجته من التقوى، فكان أقل تقى من الأول، وقل مثل هذا في سائر الصفات أو العناصر.
فإذا كانت التقوى في المستوى الأول [الأفقي] تزداد اتساعاً وانتشاراً، فإنها في المستوى الثاني [العمودي] تزداد عمقاً وثباتاً.
ولنأخذ صفة الصدق مثلاً.
فهناك من يصدق، وهناك من يصدق ويصدق ويتحرّى الصدق، وليس الثاني كالأول. وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا التدرّج في تعميق الصفة الواحدة بقوله: "إن الصدق يهدي إلى البِّر، وإن البَّر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل لَيَصْدُقُ حتى يُكْتَبَ عند الله صِدِّيقاً"، وفي رواية أخرى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقاً؛ وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً".
وهكذا تتفاوت درجات التقوى اتساعاً وعمقاً [أفقياً وعمودياً]، بمقدار ما يحرزه الإنسان من كثرة في هذه الصفات أو العناصر من جهة، وبمقدار تأصّل هذه الصفات في نفسه وعمقها فيها من جهة ثانية.
وخير مقامات التقوى، هو المقام الذي يجمع صاحبُه جميعَ صفات المتقين، مع بلوغ الغاية القصوى في عمق هذه الصفات في نفسه، وهو مقام الأنبياء والمرسلين. فمن اقترب من هذا المقام اقترب من الأنبياء والمرسلين، ومن ابتعد عنه ابتعد عنهم.
وبعد هذا البيان ندرك إدراكاً عميقاً أن ازدياد التقوى في المستوى العمودي، أي الناتج عن الاهتمام بعمق الصفة الواحدة وإتقانها لا يجبر نقص التقوى في المستوى الأفقي، فلا تغني صلاة الليل وصوم النهار، وبذل المال في السر والعلن، عن القول السديد، أو الإصلاح بين الناس، أو التفكير على"الطريقة الإسلامية" التي هي التفكير العلمي، كما بيّنا في هذا الكتاب. إذ لا بد من هذه وتلك سواء بسواء، حتى تتشكل الشخصية المسلمة تشكلاً صحيحاً متميزاً، يتوافق فيه السمت الحسن "لباس التقوى" وحُسْنُ الخُلُق الذي يتولّد من الالتزام بمنهج الله في تحقيق التقوى، مع الحُسْنِ في الخَلْق الذي ركّبه الله عليه (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) [التين: 4]، فيخرج إلى العالم الإنسان الذي ينظر الناس إليه فيرون (صُنْعَ الله الذي أتْقَنَ كلَّ شيءٍ) [النمل: 88]، (صبغة اللهِ ومَنْ أحسنُ منَ اللهِ صِبْغَةً ونحنُ له عابدون) [البقرة: 138]·