الحياء هو: "انقباض النفس أن تفعل القبائح"
ولله درُّ الجنيد حين يقول: "الحياء: رؤية الآلاء ورؤية التقصير, فيتولّد بينهما حالة تسمى الحياء,
وحقيقته: خلقٌ يبعث على ترك القبائح, ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق"
وأصل الحياء: من الحياة. فكلما كان القلب حييًا كلما ازداد الإنسان حياءً.
وللحياء أنواع منها:
1- حياء الجناية:
وهو كحياء آدم_عليه السلام_ لمّا فر هاربًا في الجنة قال الله_تعالى_: أفرارًا مني يا آدم؟! قال: لا يا رب بل حياءً منك.
ومنه حياء الفضيل _رحمه الله_ لما شهد الموقف الأشرف في عرفات رفع رأسه إلى السماء وقد قبض على لحيته, وهو يبكي بكاء الثكالى ويقول: " واسوأتاه منك وإن عفوت".
وقال الحسن: "لو لم نبكِ إلا للحياء من ذلك المقام, لكان ينبغي أن نبكي فنطيل البكاء".
2- حياء التقصير:
كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون, فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
3- حياء الإجلال:
وهو حياء المعرفة, وعلى حسب معرفة العبد بربه يكون حياؤه منه. ومنه حياء عمرو بن العاص_رضي الله عنه_
الذي كان يقول: "والله إن كنت لأشد الناس حياءً من رسول الله صلى الله عليه وسم , فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله عزّ وجلّ حياءً منه"
4- حياء المحبة:
هو حياء المحب من محبوبه, حتى أنه إذا خطر على قلبه في غيبته هاج الحياء من قلبه,
وأحس به في وجهه ولا يدري ما سببه , ولذلك تعجبت الملوك والجبابرة من قهرهم للخلق,
وقهر المحبوب لهم وذلهم له , فإذا فاجأ المحبوب محبه, ورآه بغتةً,
أحس القلب بهجوم سلطانه عليه, فاعتراه روعةٌ وخوف.
"اللهم ارزقنا حبك, وحب من يحبك, وحب كل عمل يقربنا لحبك".
]
5- حياء استشعار نعمة الله:
كحياء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو: "لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك".
هو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص, وقناعتها بالدون,
فيجد نفسه مستحييًا من نفسه حتى لكأن له نفسين يستحي بأحدهما من الأخرى,
وهذا أكمل ما يكون من الحياء فإن العبد إذا استحيا من نفسه, فهو بأن يستحي من غيره أجدر.
عالي الهمة من استحيا من الله, ومن الملائكة, ومن نفسه ومن الناس.
- أعظم الدرجات الاستحياء من الله:
من استحيا من الناس أن يروه بقبيح, دعاه ذلك إلى أن يكون حياؤه من ربه أشد, فلا يضيع فريضة, ولا يرتكب خطيئة,
لعلمه بأن الله يرى, وأنه لا بد أن يقرره يوم القيامة على ما عمِلَه, فيخجل ويستحي من ربه.
عن ابن مسعود_رضي الله عنه_ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا لأصحابه : " استحيوا من الله حق الحياء "
قالوا : إنا نستحي يا رسول الله ، قال : " ليس ذلكم ، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى ، وليحفظ البطن وما حوى ،
وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء " . (رواه الترمذي وأحمد ، وحسنه الألباني) .
وعن معاوية بن حَيْدَةَ , قال : قلت : يا رسول الله , عوراتنا ما نأتي منها وما نذر ؟ قال: " احفظ عورتك, إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ؟
قلت: يا رسول الله, إذا كان القوم بعضهم في بعض ؟ قال:" إن استطعت أن لا يرينها أحد, فلا تُرينها أحداً "
قلت: يا رسول الله, إذا كان أحدنُا خالياً, قال:" الله أحق أن يستحيا منه من الناس " ( رواه الإمام أحمد)
فإذا حرص على الستر في الخلوة تأدبًا مع الله عزّ وجلّ, واستحياءً منه _وهو أمرٌ مُختلَفٌ في وجوبه واستحبابه_
فكيف ينبغي أن يكون حياء الإنسان منه _تعالى_ إذا فقده حيث أمره, أو رآه حيث نهاه!!
- الاستحياء من الملائكة:
قال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية_ رحمه الله_:" قال بعض الصحابة_رضي الله عنهم_:
"إن معكم مَن لا يفارقكم، فاستحيوا منهم، وأكرموهم". "وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ" [الانفطار:10- 12].
أي: استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام، وأكرموهم، وأجلُّوهم أن يروا منكم ما تستحيون أن يراكم عليه مَنْ هو مثلكم،
والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، فإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصي بين يديه، وإن كان قد يعمل مثل عمله، فما الظن بإيذاء الملائكة الكرام الكاتبين؟! ".
وكان أحدهم إذا خلا يقول: أهلاً بملائكة ربي, لا أعدمكم اليوم خيرًا، خذوا على بركة الله, ثم يبدأ في ذكره: "سبحان الله, والحمد لله...".
- الاستحياء من النفس:
من استحيا من الناس ولم يستحِ من نفسه، فنفسه أخس عنده من غيره, لأنه يراها أحقر عنده من أن يستحيي منها,
وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم : " أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك" [رواه البيهقي في شعب الإيمان ، وصححه الألباني].
قال بعض السلف: "من عمل في السر عملاً يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدرٌ".
- الاستحياء من الناس:
الحياء من الناس خلقٌ حسنٌ جميل, يمنع من المعايب, ويشيع الخير والعفاف, ويعوّد النفس ركوب الخصال المحمودة,
عن حذيفة بن اليمان _رضي الله عنه_ قال: " لا خير فيمن لا يستحي من الناس".
وقال بعضهم:"أحيي حياءك بمجالسة من يُستحيا منه" .
فلا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح على أعين أهل الصلاح, وذوي الهيئات والفضل أن يراه, وهو فاعله,
وقد نصب النبي صلى اللهعليه وسلم هذا الحياء حكمًا على أفعال المرء, وجعله ضابطًا وميزانًا, فعن النواس بن سمعان_رضي الله عنه_ أنه سأل رسول الله عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"البِرُّ: حسن الخلق, والإثم: ما حاك في صدرك, وكرهت أن يطلع عليه الناس" رواه مسلم
نهاية الحياء وكماله أن لا تستحي من الحق:
قال القرطبي _رحمه الله_ :"قد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالحياء, ويأمر به, ويحث عليه ,
ومع ذلك فلا يمنعه الحياء من حقٍ يقوله, أو أمر ديني يفعله تمسكًا بقوله: "وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ" [الأحزاب: 53] والذي يتهيب تقريع المبطلين لا يُعتبر حييًا".