الآيــات ] يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى للنّاس وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ (183ـ185). * * * معاني المفردات: ] الصِّيَامُ[ : في اللغة: الإمساك عن الفعل أو الكلام أو أي شيء آخر... وهو في الشرع: إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة في زمان مخصوص. ] فَعِدَّةٌ[ : فِعلة من العدّ، وهي بمعنى المعدود كالطحن بمعنى المطحون. ] يُطِيقُونَهُ[ : يتحملونه بمشقة شديدة وجهد كبير، ويؤيده قراءة ابن عباس: يطوِّقونه: من الطاقة أي: المشقة في مثل حال الكبير الهرم، والحامل، والمرضع، والمريض الذي لا يُرجى برؤه ونحوهم. ] فِدْيَةٌ[ : ما يقي به الإنسان نفسه من مال يبذله في عبادةٍ قصّر فيها. والفدية: ما يبذل، والفداء: اسم لذلك المبذول. ] وَالْفُرْقَانِ[ : ما يفرق بين الحقّ والباطل، والفرقان: كلام اللّه تعالى. والفرقان: يوم بدر فإنه أوّل يوم فرق فيه بين الحقّ والباطل. وهذا ما جاء في قوله تعالى: ] إِن كُنتُمْ ءَامَنْتُم بِاللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ[ [الأنفال:41]. * * * الصيام مع بعض أحكامه: وهذا تشريع عبادي جديد أراد اللّه لعباده أن يتعبّدوا له فيه، من أجل أن يحقّقوا لأنفسهم البناء الروحي والعملي من خلال ذلك، كما هو الحال في العبادات الأخرى التي لم يجعلها اللّه استغراقاً في ذاته أو غيبوبةً في قدسه، ليبتعدوا بذلك عن حياتهم، بل جعلها انطلاقة في وعي الإنسان لعلاقته بربه، من حيث هي عبودية ومسؤولية وانفتاح، لتؤكد له إنسانيته الصافية النقية البعيدة عن كلّ خبث وزيف ورياء، وعن كلّ ضعف وحقد وانحراف، والقريبة من المعاني الروحية التي تبني للإنسان حياته على الصورة التي يحبها اللّه ويرضاها، فهي تلتقي بالحياة من خلال التقائه باللّه. وفي هذا الإطار، اعتبرت العبادات الإسلامية من ركائز الإسلام، باعتبار علاقتها ببناء الشخصية الإسلامية للإنسان في ما يفكر ويعمل ويمارس من علاقات عامة وخاصة، وفي ما يخطّط له من غايات، وما يستخدم من وسائل، وذلك من خلال تعدّد وتنوّع أساليبها وتنوّعها، وفي ما تثيره من مشاعر، وما تحرّكه من نوازع وأفكار. وقد نلاحظ في روعة التشريع العبادي في الإسلام، أنه حرّك العبادة في إطار العطاء، فاعتبر العطاء عبادة، وأطلقها في الحياة، فقرر أنَّ العمل في سبيل طلب الحلال عبادة، وأثارها في خطّ الدفاع عن الإنسان وقيمه الكبيرة في الحياة، فالجهاد في سبيل اللّه عبادة يتعبّد فيها الإنسان لربّه، وأفسح المجال للنية الخالصة في داخل الإنسان، لتعطي كلّ عمل يقصد به الإنسان وجه ربّه في كلّ شأن من شؤون الحياة الذاتية والعامة، صفة العبادة التي تقرّبه إلى اللّه. وكان الصوم إحدى العبادات التي بُنِيَ عليها الإسلام حسب ما ورد في أحاديث أئمة أهل البيت (ع)، فقد فرضه اللّه على المؤمنين في الإسلام، كما فرضه على المؤمنين قبلهم في الشرائع السابقة، فقد ورد في قاموس الكتاب المقدس : «الصوم بشكل عام وفي جميع الأوقات كان متداولاً في أوقات الأحزان والنوائب بين جميع الطوائف والملل والمذاهب»[1]. ويظهر من التوراة أنَّ موسى (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام) صام أربعين يوماً، فقد جاء فيها: «أقمت في الجبل أربعين ليلةً لا آكل خبزاً ولا أشرب ماءً. وكان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرّع إلى اللّه. واليهود كانوا يصومون غالباً حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام اللّه، ليعترفوا بذنوبهم عن طريق الصوم والتوبة، وليحصلوا على رضى ضرة القدس الإلهي»[2]. «الصوم الأعظم مع الكفارة كان على ما يبدو خاصاً بيوم من أيام السنة بين طائفة من اليهود. طبعاً كانت هناك أيام أخرى مؤقتة للصوم بمناسبة ذكرى تخريب أورشليم وغيرها»[3]. السيِّد المسيح (عليه السلام) صام أيضاً أربعين يوماً، كما يظهر من الإنجيل «ثُمَّ صعد يسوع إلى البرية ... فبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً»[4]. ويبدو من نصوص «إنجيل لوقا» أنَّ حواريي السيِّد المسيح صاموا أيضاً[5]. وجاء في قاموس الكتاب المقدس «من هنا كانت حياة الحواريين والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالأتعاب وبالصوم»[6]. وقد لا نجد تفصيلات وافية عن طبيعة هذا الصوم المفروض على السابقين في شرائعهم، ولكنَّنا نجد في القرآن الكريم حديثاً عن صوم الصمت في ما حدّثنا اللّه به من قصة زكريا قال: ] قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النّاس ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ[ [آل عمران:41] وفي ما حدّثنا به من قصة مريم (ع): ] فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً[ [مريم:26]. وقد نجد لدى بعض المنتسبين إلى الديانات السابقة من اليهود والنصارى نوعاً من الصوم الذي يمتنعون فيه عن بعض المأكولات كاللحوم ونحوها في بعض أيام السنة. وقد يخيّل لبعض النّاس أنَّ تشبيه الصوم المكتوب علينا بما كتب على الذين من قبلنا يوحي بوحدة الصوم عندنا وعندهم، ولكن ذلك غير ثابت، لأنَّ التشبيه يكفي فيه أن يكون وارداً لبيان أصل التشريع من دون دخول في تفاصيله. * * * الصوم والتقوى: وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة: ] يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ[ إذ لا بُدَّ لكم من القيام به فرضاً واجباً، كعبادة شرعية تتقرّبون بها إلى اللّه، وتحقّقون فيها الكثير من المنافع الروحية والأخلاقية والجسدية، ] كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ ، فلستم أوّل الأمم التي يفرض عليها هذا النوع من الإمساك العملي، لأنَّ القضية ليست حالةً خاصةً في ظرف خاص يتصل بكم بشكل خاص، بل هي حالة عامة في الإنسان كلّه من حيث علاقة الترك المخصوص لبعض الأشياء في توازن حياته، كما هي علاقة الفعل الخاص في الجوانب الأخرى منها، وربما اختلف الصوم في طبيعته ومفرداته بين أمّة وأخرى، ولكن المبدأ واحد. وقد ختمت الآية بيان الصوم بقوله تعالى: ] لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[ للإيحاء بأنَّ التقوى هي غاية للصوم أو نتيجة له، نظراً لما يثيره في داخل الإنسان من الرقابة الذاتية الداخلية التي تمنعه من ممارسة كثير من الأشياء المعتادة له من شهواته ومطاعمه ومشاربه، انطلاقاً من وعيه التام للإشراف الإلهي عليه في كلّ صغيرة وكبيرة. وهذا ما تعبّر عنه مفردة «التقوى» بما تمثّله من الانضباط أمام ما يريده اللّه منه وما لا يريده، وذلك بأن لا يفقده اللّه حيث يريده ولا يجده حيث ينهاه. وبذلك يكون هذا الصوم الصغير مقدّمة للصوم الكبير، وذلك يتوافق مع ما ورد به الحديث الشريف: «ربّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش، وربّ قائم حظّه من قيامه السهر..»[7] ، فيمن لا يمنعه صومه من الممارسات المحرّمة الأخرى في شهر رمضان وفي غيره. ] أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ[ هناك قولان في المقصود بهذه الأيام:أحدهما: إنها غير شهر رمضان، وكانت ثلاثة أيام من كلّ شهر، ثُمَّ نُسخ، عن معاذ وعطا وعن ابن عباس وروي ثلاثة أيام من كلّ شهر وصوم عاشوراء، عن قتادة. ثُمَّ قيل: إنه كان تطوّعاً. وقيل: بل كان واجباً. واتفق هؤلاء على أنَّ ذلك منسوخ بصوم شهر رمضان.والآخر: إنَّ المعني بالمعدودات هو شهر رمضان، عن ابن عباس والحسن واختاره الجبائي وأبو مسلم، وعليه أكثر المفسرين، قالوا: أوجب سبحانه الصوم أولاً فأجمله، ولم يبين أنها يوم أو يومان أم أكثر، ثُمَّ بيّن أنها أيام معلومات وأبهم، ثُمَّ بيّنه بقوله: ] شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ[ ، قال القاضي: وهذا أولى، لأنه إذا أمكن حمله على معنى من غير إثبات نسخ كان أولى، ولأنَّ ما قالوه زيادة لا دليل عليه»[8].] فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[ فليس على المريض صيام في شهر رمضان، والظاهر ـ من مناسبة الحكم والموضوع ـ أنَّ المراد به المرض الذي يضر به الصوم، لأنَّ ذلك ما يعتبر عُسراً على المكلّف، فلا يشمل الصوم الذي ينفع المريض أو الذي لا يترك أي أثر ضار على صحته. وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة المتعدّدة في هذا الشأن. أمّا السفر، فقد حُدِّدَت كميته بما ورد في السنة الشريفة التي اختلفت الرِّوايات بشأنها، مما أوجب اختلاف المذاهب فيها بين السنة والشيعة، مما تعرّضت له كتب الفقه. * * * الإفطار في السفر رخصة أم عزيمة؟ ولكن هنا بحثاً آخر لا بُدَّ من الإشارة إليه، وهو أنَّ الإفطار في السفر رخصة أم عزيمة؟. فذهب جمع من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف، وعمر بن الخطاب، وعبد اللّه بن عمر، وأبي هريرة، وعروة بن الزبير[9] إلى أنه عزيمة، وهو المروي عن أئمة أهل البيت (ع)[10] ، وهو الظاهر من الآية الكريمة في قوله تعالى: ] فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[ ، فإنَّ الظاهر منها هو أنَّ صيام الأيام المعدودات فرض غير المسافر والمريض، أمّا هما فإنَّ فرضهما هو أيام أُخر، في غير شهر رمضان، لأنَّ السياق جرى مجرى العزيمة والفرض وذهب أكثر أهل السنّة إلى أنه رخصة، وقدّروا في الآية كلمة: فأفطر، فقالوا، إنَّ تقديرها فمن كان مريضاً أو على سفر فأفطر فعدّة من أيام أُخر... ولكن هذا ضعيف بأنَّ التقدير خلاف الظاهر ولا يُصار إليه إلاَّ بدليل، ولا دليل في الآية عليه، وبأنَّ هذا التقدير لا يمنع من العزيمة لأنَّ الحديث عن الإفطار لا يعني إلاَّ جوازه في مقابل التحريم ولا يعني ذلك في مقابل الإلزام. * * * متى تجب الفدية؟ ] وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ[ . الإطاقة ـ كما ذكره بعضهم ـ صرف تمام الطاقة في الفعل، ولازمه وقوع الفعل بجهد ومشقة[11]. والفدية هي البدل المالي عن الصوم. والظاهر من الآية ـ بمقتضى السياق ـ هو حالة الذين يستطيعون الصوم بجهد ومشقّة، وهم الشيوخ الذين يجهدهم الصوم، فإنَّ مثل هؤلاء لا يكلّفون بالصوم ولا يكلّفون بالقضاء، بل يمكنهم الاكتفاء بدفع الفدية. وقد ورد ذلك في تفسير العياشي عن الإمام محمَّد الباقر (ع) قال: الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش[12]. وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ هذه الفقرة تدلّ على الرخصة، على أساس تخيير اللّه للقادرين بين الصوم وبين الإفطار ودفع الفدية، ثُمَّ نسخت بقوله تعالى: ] فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[ . ولكن ذلك مردود بدراسة الآيات التي تدلّ على وحدة الفرض والسياق، ولا يحتاج ذلك إلاَّ إلى ذوق سليم وحسّ مرهف. ] فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ[ . ربما كان المقصود منه التطوّع بالزيادة على الفدية، بأن يعطي الزيادة على ما وجب عليه، كما ورد في بعض الأحاديث أنَّ الأفضل مدّان من الطعام. وفسّرها صاحب الميزان بإيتاء الصوم عن رضى ورغبة[13]، لأنَّ كلمة التطوّع تعني الاختيار في مقابل الإلزام لتدلّ على الاستحباب، بل تدلّ على الطوع في مقابل الكره؛ وذلك بأن يأتي الإنسان به عن رغبة ورضى وقناعة. ولكن هذا خلاف الظاهر لظهور كلمة التطوّع في الفعل الذي يأتي به الإنسان من دون إلزام، باعتبار أنَّ الإلزام يوحي بالضغط والكره، بينما الاستحباب لا يوحي إلاَّ بالتوسعة والتخفيف. وأمّا ما ذكره من أنَّ استعمال الكلمة في الفعل المستحب اصطلاح جديد فهو غير دقيق؛ لأنَّ القضية ليست قضية استعمال الكلمة في المعنى، بل استيحاء المعنى من معنى الكلمة في ما يفهم من مدلول الواجب والمستحب. ] وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تعْلَمُونَ[ ، الظاهر منها ـ بقرينة السياق ـ هو أنها خطاب للذين يجهدهم القضاء، فتباح لهم الفدية، لإعلامهم بأنَّ الفدية، وإن كانت جائزة، إلاَّ أنَّ الصوم خيرٌ لهم إن كانوا يعلمون لما فيه من النتائج الروحية والعملية. وهناك احتمال بأنَّ الفقرة واردة في الحديث عن الصوم، بأنه خير للنّاس في ذاته بحسب فلسفة الصوم في تشريعه من حيث المنافع الكثيرة العائدة إلى النّاس، وقد جرى أسلوب القرآن على الإتيان بهذه الفقرة بعد كلّ تشريع، لما ورد في قوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة: ] يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللّه وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[ [الجمعة:9] وقوله تعالى: ] وَإِبْرَهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللّه وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ[ [العنكبوت:16]. وبهذا يبطل قول من قال: إنَّ الصوم كان في بداية التشريع واجباً تخييرياً، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية، ثُمَّ نسخ ذلك بعد أن تعوّد المسلمون على الصوم فأصبح واجباً عينياً. وهو خلاف الظاهر. * * * ما معنى نزول القرآن في شهر رمضان؟ ] شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى للنّاس وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ . في هذا التأكيد القرآني على نزول القرآن في شهر رمضان، في هذه الآية، وفي تحديد ليلة القدر في سورتي الدخان والقدر، إيحاءٌ بأنَّ عظمة هذا الشهر مستمدة من مناسبة نزول القرآن فيه. وقد اختلف الحديث في تحليل نزول القرآن في هذا الشهر، فهناك من ذكر أنَّ المراد به أول نزوله، وهناك من ذكر أنه النزول إلى اللوح المحفوظ من البيت المعمور، وهناك من حاول أن يجعل من مفهوم الكتاب معنى غامضاً لا نستطيع إدراكه، فهو الذي نزل على قلب النبيّ محمَّد (ص) دفعة واحدة ثُمَّ نزل عليه تدريجياً. وقد كان السبب في هذا الاختلاف، ظهور هذه الآية وغيرها في نزوله دفعة، بينما الآية الكريمة تنص على أنه نزل تدريجياً: ] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً[ [الفرقان:32] والآية الأخرى ] وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مُكث ونزلناه تنزيلاً[ [الإسراء:106]. كما أنَّ هناك وجهاً آخر لهذا الاختلاف، وهو أنَّ النزول والبعثة كانا في موعد واحد، مع أنَّ المعروف أنَّ البعثة كانت في السابع والعشرين من شهر رجب وأنَّ أول ما أنزل: ] اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[ [العلق:1] فكيف يمكن التوفيق بين الآية وبين ذلك؟! والواقع أنَّ الظاهر من القرآن الكريم هو أنَّ إنزاله كان في شهر رمضان، ولا نجد هناك فرقاً بين الآيات التي تتحدّث عن إنزال القرآن في ليلة القدر أو في شهر رمضان، وبين الآيات التي تتحدّث عن إنزاله على مكث أو تدريجياً، ولا نستطيع أن نحمل القرآن على معنى غامض خفي في علم اللّه، وذلك لا من جهة أننا نريد أن نفسّر القرآن تفسيراً حسياً مادياً كما يفعل الحسيون، بل من جهة أنه لا دليل على ذلك في ما حاول بعض المفسّرين أن يقيم الدليل عليه، مما لا مجال للخوض في النقاش فيه، لأننا لا نجد فيه كبير فائدة. وعلى ضوء ذلك، فإنَّ هذا الظهور القرآني البيّن يجعلنا لا نثق بالرِّوايات التي توقّت البعثة في رجب أو تعيّن أوّل الآيات النازلة في سورة اقرأ؛ ولذلك فإنَّ من الممكن أن يكون المراد من الإنزال هو أوّل الإنزال، كما أنَّ كلمة القرآن تطلق على القليل والكثير بما يشمل السورة والآية والمجموع. والظاهر أنَّ هذا المقدار كافٍ في الجانب التفسيري من القضية، لأنَّ الباقي يدخل في باب التخمين والتأويل من غير فائدة تذكر. * * * القران هدى للنّاس: ] هُدًى للنّاس وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ . هذه هي قيمة القرآن وأهميته في حياة النّاس؛ فهو كتاب هدى يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السَّلام، ويخرجهم من الظلمات إلى النور. وهو كتاب البينات التي توضح للنّاس حقائق الأشياء ودقائقها بما يزيل كلّ شبهة، ويفرّق بين الحقّ والباطل. وقد بيّنا في بداية هذا التفسير أنَّ معنى كون القرآن هدى، هو اشتماله على أسس الهدى لمن أراد أن يهتدي بها، فلا مجال للإشكال بأنَّ هناك من لا يهتدي بالقرآن، لأنَّ الهدى هنا بمعنى الشأنية لا بمعنى الفعلية؛ فراجع. * * * بين القضاء واليُسر: ] فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[ . هذا تأكيد على الحكم الذي استفدناه من الآية السابقة ولكن بشكل أوضح، فإنَّ المراد من الشهود الحضور في مقابل السفر. أمّا المريض والمسافر، فيجب عليهما الصوم في أيام أخر في غير شهر رمضان، ولا يجب عليهما في هذا الشهر، ولا يشرّع لهما، وقد تقدّم الحديث عن موضوع الرخصة والعزيمة في صوم المسافر. وقد ذكر البعض أنَّ المراد بشهود الشهر رؤية الهلال، لتكون الآية دالة على أنَّ الصوم مشروط بالرؤية، كما جاء في الحديث الشريف عن النبيّ محمَّد (ص): «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»[14]. ولكن لا دليل في الآية على ذلك، بل ربما كان ذكر السفر في مقابل ذلك دليلاً على أنَّ المراد به الحضور في البلد. وقد جاء في رواية زرارة عن الإمام أبي جعفر محمَّد الباقر (ع) أنه قال لما سئل عن هذه ما أبينها لمن عقلها، قال: «من شهد رمضان فليصمه، ومن سافر فيه فليفطر»[15]. وقد روي أيضاً ـ كما في مجمع البيان ـ «عن علي وابن عباس ومجاهد وجماعة من المفسّرين أنهم قالوا: «من شهد الشهر بأن دخل عليه الشهر وهو حاضر، فعليه أن يصوم الشهر كلّه»[16]، وهذا دليل على أنَّ المراد به الحضور في البلد. ] يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ . هذا بيان للحكمة في تشريع القضاء على المسافر والمريض، وأنَّ اللّه أراد من خلال ذلك بناء أمر الإنسان في ما يفعله وفي ما يتركه على أساس التيسير، لأنَّ اللّه قد أرسل نبيّه بالشريعة السهلة السمحة. وقد حاول البعض أن يستفيدوا من هذه الفقرة من الآية أنَّ الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة، ولكن لا دليل لهم في ذلك، لأنه يمكن أن يكون اليسر في إسقاط الصوم عنهم، وإن كان ذلك إلزامياً. وربما يستفاد من هذه الآية قاعدة فقهية حاكمة على أدلّة الأحكام العامة، وهي قاعدة «اليُسر» أو «لا حرج»، فهي دالة على أنَّ اللّه يريد ـ في كلّ تشريعاته ـ أن ييسر للنّاس حياتهم في ما يفعلون وفي ما يتركون، ما يوحي بأنَّ كلّ حكم يوقع النّاس في العُسر فهو غير مجعول في الشريعة، حتى لو كان الدليل الدال عليه يدلّ على ذلك بإطلاقه وعمومه. وهذا هو الأساس في فتاوى الفقهاء في انتقال الإنسان من حالة في الصلاة إلى حالةٍ أخرى، حيث يرفع الإلزام عن الحالة المستلزمة للمشقة والعُسر، كالقيام بالنسبة إلى الجلوس، والوضوء بالنسبة إلى التيمم ونحو ذلك. ] وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ[ في صيام الأيام التي فاتت المكلّف في شهر رمضان، ليكمل له بذلك الصيام الذي فرضه عليه. ] وَلِتُكَبِّرُواْ اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ[ . فسّره المفسّرون بالتكبيرات التي يكبّرها المصلون في صلاة العيد، ولعلّ الظاهر أنها تعليل للتشريع العبادي في الصوم الذي يوحي بالتذلل، والخضوع، والانقياد، والوعي الروحي للربوبية الشاملة والألوهية العظيمة في موقع العظمة والكبرياء، وعلى هدايته لدينه الذي به يعرف ربّه في توحيده، وقدرته، وكلّ مواقع العظمة عنده، ليحسّ الإنسان بأنَّ اللّه هو كلّ شيء في وجوده وفي حركته، ولا شيء لأيّ مخلوق إلاَّ من خلاله، فهو الذي يمنحهم القوّة والعظمة والغنى والسعة في حياتهم، ولا يملكون، في ذواتهم، نفعاً ولا ضراً... وهذا ما يجعل المؤمن واعياً لمقام ربّه، ومنفتحاً على مسؤوليته في توحيده في العبادة والطاعة، فيكبّر اللّه على ذلك كلّه، في روحه وعقله وشعوره ولسانه وعمله. ] وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[ على ما رزقكم اللّه من الفرصة في طاعته وفي القيام بما يصلح أمر دينكم ودنياكم، فإنَّ ذلك من النعم التي تستحق الشكر، وأي نعمة أفضل من النعمة التي تهيّىء للإنسان سعادة الدارين. ــــــــــــــــــ |