الذي دل عليه الشرع في مسألة صِغر السن هو النظر في تأثيره على أهليَّة الفتاة للنكاح و على مصلحَتها فيه؛ فإن كان مُؤثرا سَلْبا مُنع الزواج، و إلا فلا:
عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "خطب أبو بكر و عمر رضي الله عنهما فاطمةَ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إنها صغيرة"، فخطبها علي فزوجها منه" [رواه النسائي بسند جيد].
و دلالة هذا الحديث ظاهرة؛ حيث كان صغر فاطمةَ رضي الله عنها في الحال الأولى سببا مُعتَبرا لمنع زواجها، و لم يكن كذلك في الحال الثانية، و قد بين العلماء أن العِلة هي: الفرقُ الكبير بين سنها و سن أبي بكر و عمر، و هو مُنتف فيما بينها و بين علي، و ذلك الفرقُ هنا سببٌ لتضررها فمنع الزواج.
و نأخذ من هذا حكما عاما، و هو: متى كان الصغر سببا لتضرر الزوجة منع زواجها، سواء كانت العلة ما ذكر في الحديث أو كانت غيرها؛ كانعدام الأمانة عند الولي مثلا، و إذا لم يكن في زواجها ضررٌ معتبر شُرِع، و يتفاوت هذا في الناس باختلاف البيئات و الأزمنة، و الطبائع و الأحوال، و لا تنحصر المشروعية في زمان النبوة كما توهم البعض.
و من أمثلة الحال الثانية [و هي عدم كون الصغر مانعا]؛ زواج النبي صلى الله عليه و سلم بعائشة رضي الله عنها:
عن عائشة قالت: "تزوجنى النبى -صلى الله عليه و سلم- و أنا بنت ست سنين و بنى بي و أنا بنت تسع سنين". [متفق عليه].
و قد استدل بهذا الحديث الجمهور، و منهم الأئمة الأربعة على مشروعية زواج الصغيرة، كما استدلوا بالآية من سورة الطلاق، و هي قول الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} الطلاق 4.
فالصغيرة داخلة في اللائي لم يحضن عند عامة المفسرين.
قال البقاعي: "{و اللائي لم يحضن} أي لصغرهن أو لأنهن لا حيض لهن أصلاً". [نظم الدرر(9/59)].
و يؤكد دخول الصغيرة سبب النزول:
أخرج ابن أبي شيبة و ابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال: "لما نزلت عدة المتوفى المطلقة قلت: يا رسول الله بقي من النساء: الصغيرة و الكبيرة و الحامل؛ فنزلت: {و اللائي يئسن من المحيض} الآية". [الدر المنثور (10/39)]
ونحوه عند البيهقي في سننه والحاكم في مستدركه وصححه.
قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن للأب أن يزوج ابنته الصغيرة" [التمهيد 19/98].
و قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم، أن نكاح الأب ابنتَه البكرَ الصغيرةَ جائز، إذا زوجها من كفء" [المغني 14 /428]
و رُد الإجماع بقول ابن شبرمة: "لا يجوز إنكاح الأب ابنته الصغيرة حتى تبلغ و تأذن". [المحلى (9/459)].
و في دلالة الآية و الحديثين على الإباحة كفاية.
و أؤكد هنا أن النبي صلى الله عليه و سلم بزواجه من عائشة في ذلك السن لم يشرع لنا أن كل فتاة بلغت تسعا جاز نكاحها، و لكن شرع لنا أن بنت التسع إذا استوفت عناصر أهلية الزواج شرع تزويجها:
قال الداودي مبينا أهلية عائشة: "و كانت قد شبت شبابا حسنا رضي الله عنها".
كما أنبه على ما يستفاد من الحكم المتقدم من ضرورة التفريق بين العقد و الوطء؛ فقد يعقد على الفتاة الصغيرة لمصلحة يقدرها الولي الناصح، و لا يطأها إلا بعد توفر القدرة.
روى الأثرم أن قدامة بن مظعون تزوج ابنة الزبير حين نفست، فقيل له؟ فقال: "ابنة الزبير إن مت ورثتني، و إن عشت كانت امرأتي".
فرغب في إكرام بنت أحد المبشرين بالجنة، و وجد ما يعينه على ذلك في الحكم الشرعي.
و لا يشترط هنا إذنُها، لأنها لا تعي مصالحها، فإذا بلغت صار استئذانها واجبا.
و قولي: "الولي الناصح"؛ لأن شرط المشروعية أن ينصح لها و يزوجها من كُفءٍ، فإن لم يكن كذلك فالنكاح باطل عند بعض أهل العلم، و هو قولٌ للشافعي وروايةٌ عن أحمد كما في المغني (م: 5200).
و لذلك قَيَّد ابن المنذر ثبوتَ الإجماع بقوله المتقدم: "... إذا زوجها من كفء".
نفهم مما سبق؛ أن الشارع الحكيم أناط مشروعيةَ تزويج الصغيرة بالقدرة و اعتبار المصالح و المفاسد، فمكّن في المجتمع لما يخدم العفة و الفضيلة (إباحة الزواج المبكر)، مع إحاطة هذا الحكم بقيود تضمن سلامةَ الزوجة من الضرر.
و هو ما توخته مدونة الأسرة عندنا في المغرب في مادتها العشرين حين رخصت للقاضي أن يزوج من هي دون الثامنة عشر إذا قدر أهليتها.
أما أن نغلق الباب مطلقا فهذا تحريم لما أحل الله، و توسيع لمجال العلاقات المحرمة على حساب العلاقات الشرعية، و هو ما تدعوا إليه مؤتمرات المرأة الدولية التي تأمر بمنع الزواج المبكر، و تفتح أبواب العلاقات الساقطة بين المراهقين و المراهقات على مصارعها، و هو ما تسعى الجمعيات النسائية العلمانية لتجسيده في واقع الأمة الإسلامية.
نكاح يَستوثق له الولي، و يأذن به القاضي، و تتعاون على إنجاحه الأسر، و يجعله الشارع الحكيم ميثاقا غليظا، يُضيَّق عليه و يحارب!
و سِفاح مخرب للفكر و السلوك، مدمر للأسر و المجتمعات؛ يُعَد حقا تنبغي المطالبة به!!
إن الأهلية للزواج -من المنظور الشرعي- تعتبر فيها أمور زائدة على السن؛ فرُبّ فتاة لا تتجاوز الخامسة عشر، و عندها من النضج الفكري و الجسدي ما يؤهلها للزواج، و رُب أخرى قاربت الثلاثين و لا تصلح للزواج و تَكوِين أسرة، و للبيئات و الأحوال تأثيرُها في ذلك، و هذه الأخيرةُ قد تُشكل عرفا يراعى في الحكم بالجواز أو المنع.
فلا نمنع مطلقا فنُفوّت منافع الزواج المبكر، و لا نجوز مطلقا فنعرض الفتاة للضرر.
هذا، و قد ذهب بعض أهل العلم –كابن شبرمة- إلى أن الفعل النبوي المتقدم في حديث عائشة؛ من خصوصيات رسول الله صلى الله عليه و سلم:
قال الشيخ ابن عثيمين: "و يرشح هذا القول أن الرسول صلى الله عليه و سلم خص بأشياء كثيرة في باب النكاح". (شرح صحيح البخاري (6/273).
و الظاهر عدم الخصوصية، بل هو حكم عام، لكن لا بد من تقييده بانتفاء الضرر الحسي و المعنوي، لما تقدم، و لقول النبي صلى الله عليه و سلم: "لا ضرر و لا ضرار". و هذا متحقق في زواج النبي صلى الله عليه و سلم بعائشة كما سبق.
أما إن كان في الزواج ضرر على المتزوجة؛ كأن توطأ و هي عاجزة، أو يستغلها الولي لأطماعه الشخصية و لا يعتبر رضاها و لا مصلحتَها فالزواج هنا لا يجوز، و إذا صار غالبا و متفشيا في المجتمع لم يبعد القول بأنه يشرع لولي الأمر منعُه سدا للذريعة، و قد تقدم أن الحكم الشرعي في المسألة نسبي و ليس مطلقا:
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "أما الاستدلال بحديث عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر زوجها و لها ست سنين، و دخل عليها النبي صلى الله عليه و سلم و لها تسع سنين، فهذا صحيح أن فيه تزويج الرجل أولاده الصغار، و لكن قد يقال: متى يكون الزوج كالرسول صلى الله عليه و سلم، و متى تكون البنت كعائشة؟ (قلت: و متى يكون الولي كأبي بكر؟!)
أما أن يأتيَ إنسان طمَّاع لا هَمَّ له إلا المال، فيأتيه رجل ما فيه خير، و يقول: زوِّجني بنتَك و هي عندها ثلاثة عشر سنة، أو أربعة عشر سنة، ما بلغت بعد و يعطيه مائة ألف، فيزوجه إياها و يقول: الدليل على ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه زوج عائشة للنبي صلى الله عليه و سلم.
نقول: هذا الاستدلال بعيد -ما فيه شك- و ضعيف؛ لأنه لو ما أعطاك المائة ألف و لا أعطاك كذا، ما زوجتَه، و لا استدللت بحديث عائشة و تزويج أبي بكر للنبي صلى الله عليه و سلم إياها.