كتبه/ أحمد جميل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فإن المتأمل للأحداث من حوله، وتتابع الأمور هنا وهناك، يجد الخطبَ جللاً، والأمرَ عظيماً، فالفتن تتشابك كأعواد الحصير، لتجعل الولدان شيباً، والحليم حيرانا.
فيقف القلم عاجزاً عن تصوير خلجات النفس، واضطرابات الروح.
والكتابة لا تفي بما يعصف بالأذهان، وما يعتري الجنان.
نعم... وكأن الدنيا بحر كبير، والناس كلٌ في مركبه، على اختلاف مشربه ومأربه، والفتن والأحداث التي ذكرنا كأمواج ذلك البحر تتلاحق تترا، تدفع بسفن الراحلين شرقا وغربا، يمينا وشمالا.
تأتي هادئة مرات، وثائرة مرات ومرات، فالجميع يرنوا إلى النجاة، ولكن قلًّ من يدركها.
وسط كل هذا الزخم نـُبْحِرُ بمركب الإسلام وسفينة الشرع، وسط أمواجٍ جُلها عاتية، ورياحٍ ربما تأتي بما لا تشتهي السفن، وقراصنة قاعدين كل مرصد، وأعداء مقصدهم التعرض للرحلة بكل سوء، وإغراق السفينة برمتها إن استطاعوا.
وفي رحلتنا نعرج على شواطئ غزة، هذا الجزء الغالي والحزين من أرض المسلمين، نبحر وربما يرانا البعض نسبح ضد التيار، أو نتفرد في طريقنا فلا يرافقنا أحد، نبحر لنتقابل مع بعض الأمواج، فنقف لنتبصّر، ونتمهَّل لنعتبر.
موجة ألم (المشهد الجديد القديم):
فما زالت موجة الموت البطيء هي المتصدرة للمشهد هناك، قتل وحصار خانق، ومنع لأدنى مقومات الحياة، والصراع قديم جديد، بين الحق والباطل، الإيمان والكفر، واليهود عدو الإسلام التقليدي منذ وجوده ما نقموا من المسلمين إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد.
يسقط قناع الزيف عن الكفر المتدثر بالأمن والحوار والتعايش السلمي، يسقط القناع ليبدي الوجه الحقيقي، القبيح بغضاً وحنقاً وحرباً على الإسلام وأهله. قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ)(آل عمران:118)، والـتـّـُهم كثيرة جاهزة: "معاداة الإنسانية - إفساد السلام"، والتهمة التقليدية: "الإرهاب".
والقوم لا يرضون حتى بإسلام معتدل -حسب زعمهم-، لا يرضون إلا باجتثاث عقيدة التوحيد، قال -تعالى-: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)(البقرة:120).
ثم على الجانب الآخر يلعب الصامتون دور الحَمَل الوديع شجباً واستنكاراً، ولا مانع من إرسال بعض المساعدات تحت شعار الصليب، وكأن التنصير هو "المُخـلـِّص" من المعاناة، ولا ننسى بالطبع التقاط الصور أمام العدسات.
ولعل أقرب ما يصور المشهد قول الناظم: زعموا... وقد سفكوا الدماء ومثلوا بالأبرياءْ أنْ قد أتوا كي يسحقوا الإرهاب ينبوع العِداءْ!! رُعباً من الإسلام... إرهاباً دعوه وبحجة الإرهاب أيسر ما ادّعوه قتلوا وجاسوا في الديار مخربينْ... حصدوا المئينْ... وشرّدوا الآلاف قسراً لاجئينْ ورفاقهم حملوا الغذاءَ لهؤلاءْ بذلوا الدواءْ...! نصبوا الخيام عن العراءْ بسطوا الفراش مع الغطاء لأنهم أهل المودة راحمون..! و(برحمةٍ) هم بالغذاء ينصّرونْ! ومع الدواء ينصّرونْ! وهكذا... يا مسلمونْ إخوانكم ما بين قتلى بالصليبِ وآخرون (يعمّدونْ) فإلى الإله المشتكى إنا إليه لراجعونْ وبحجة الإرهاب يُقطع عنهم المددُ (الشحيحْ) ويحاصرَ الإعلام كيلا يكشف الوجه القبيحْ ويجرّم المتعاطفونْ!! بَلهَ الرجالَ المخلصين! وبخدعة الإرهاب أُرهب كل إنسان عقولْ كيلا يقولْ: مقالةً تهدي العقولْ فمشاهد التدجين تجري من فصولٍ في فصولْ وبخدعة الإرهاب ما شاءوا أتوه! قد يُعجز الإرهاب في قاموسه ما أنجزوه لكنهم لا يُسألونْ!! لأنهم لا يُسألونْ!!
موجة حصار (فك حصارك قبل حصار غزة):
إن الحصار ليس لغزة فقط، بل الأمة كلها محاصرة، ومنذ عقود، محاصرة أولاً إيمانياً بمظاهر عديدة من الكفر والشرك ما زالت تعتري بلاد المسلمين.
محاصرة بخلل عقدي كبير يتلبس به الناس يحتاج لجهود من الإصلاح.
محاصرة بأنواع من المنكرات والكبائر صارت مستمرأة في مجتمعاتنا.
محاصرة بشوائب من الشبهات والشهوات تختلط حتى بشباب الصحوة المباركة.
محاصرة إعلامياً بغزو فكري جارف على شتى المجالات ومختلف الأصعدة.
محاصرة اقتصادياً بإغراقها في دائرة من التعامل بالربا وأكل الحرام، ودوامة من التشابك مع اقتصاديات الآخر.
محاصرة اجتماعياً بصور من الهزيمة النفسية انطبعت على السلوك بتشبه كبير بالغير من الكفار والفساق وغيرهم.
وغيرها كثير من صور الحصار.
والحاصل أن غزة ما هي إلا صور -وإن كانت صورة أكثر ظلاماً- من واقع أليم تعيشه الأمة كلها، وفك الحصار لا نجانب الصواب إن قلنا إنه يبدأ بكل فرد منا.
نعم... أخي الحبيب إن عجزت -والعجز والقدرة والمصالح والمفاسد أمور معتبرة شرعاً- إن عجزت عن المساهمة في فك حصار غزة، فهل تعجز أن تفك حصارك أنت؟! قال -تعالى-: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11).
موجة أمل (صبر ويقين):
نعم... فيا أهل غزة، ويا كل "غزة" في أي بقعة في الأرض، صبراً فإن مع العسر يسراً، إن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يُسْرَين، إن الآلام التي تعاني منها أمتنا اليوم لهي أشبه ما تكون بآلام المخاض التي يتبعها مولود جديد سعيد، ينتظره الجميع.
والعبد يشهد في مقام العبودية حِكَمَاً إلهية، إنه لا بد من التنقية والتمحيص، لا بد من إيجاد الجيل المسلم الذي يستحق التمكين.
لا بد أن ينتفش الباطل ويعلو ليكون استئصاله من جذوره واستحقاقه للعذاب من عند الله، عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قال: ثُمَّ قَرَأَ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهْىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) رواه البخاري ومسلم.
لا بد من استخراج صور العبودية من العباد دعاءً ورجاءً وتعلقاً بالله وحده -سيما والأسباب مفقودة والوسائل منقطعة-، وتسلط الكافرين على المؤمنين وإيذائهم بأنواع الأذى سبب لاتخاذ الله الشهداء -وهو يحبهم سبحانه-، وكذا هو سبب لرفع راية الجهاد وإحياء روحه التي كادت تندرس في الأمة.
وغير ذلك من حكم جليلة عظيمة يحصيها المولى وحده -عز وجل-.
والأمل كذا بعودة الناس لدينهم، وإقبالهم على طاعة ربهم.
ثم الأمل -قبل ذلك وبعده- بوعد من الله بالنصر والتمكين: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)(النساء:87)، وعد بالنصر والتمكين، وأن الجولة الأخيرة للإسلام.
قال -تعالى-: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور:55).
فإذا بذل العباد الطاقة، وإذا أخذوا بالأسباب المشروعة المتاحة دون ركون لها، وإذا تأملوا وأيقنوا في بعض هذه المعاني والحكم، تثلج صدورهم، ويـُأتوا صبرا ويقينا يعينهم، والله المستعان.ولـرب نـازلة يضيق بها الفتى ذرعا وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظنها لا تـفـرج
موجة إغراق (للبائع الخاسر):
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ يتكلم فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني.
وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ) رواه أحمد، وصححه الألباني.
فعلى مرأى ومسمع من الجميع، وبسكوت وتواطؤ دوليَيْن، يأتي المنافقون أصدقاء اليهود وأعوانهم، موالاةً وحباً ونصرة، وبثياب الناصح الأمين ومحب الخير لأمته، يأتون ليأخذوا دورهم في اللعبة، فتأتي الضربة من الظهر -وهي القاصمة-، ويُلبس الحق بالباطل فيتبلبل الناس، وتضيع القضية الكبرى بافتعال قضايا تلفت الأنظار لها، وليس العجب من المنافق الذي يبيع دينه بعرض من الدنيا -فهذا ديدنه-، لكن العجب ممن باع نفسه ودينه وأمته وأرضه ولم يقبض الثمن.
ولله در الشاعر حين قال:
يا بائع القدس:بـعـها فـأنـت لما سـواها أبْـيـــَعُ لــك عـارها، ولها المـقـام الأرفعُ لك وصـمة الـتاريـخ أنت لمثلها أهـلٌ ومثــلـك في المذلة يرتـــــعُ وعـلمـت أنـك ابن إسـرائيل، لم تـفـطـم وأنك من هواها تــرضــعُ يا مـن تـزوجت القضية خــدعة وحـلفــت أنــك بالحقيقة تصــدعُ عـجباً لـزوج لا يغار فــقلبــــــه متحـجـر وعــيـونـه لا تـدمــــــعُ عجباً لزوج باع ثوب عـروسـه لا يــنزوي خـجـلاً ولا يـتــــورعُ يا بائـع الأوطان بيـعك خاســـرٌ بـيـع السـفـيه لـمـثله لا يُشـــرعُ هـذي فـلسطين العزيزة لم تزل فـي كـل قـلـب مسلم تتــــــــربـعُ قـد طـال لـيل الكفر لكنـّـي أرى مـن خـلفـه شـمس العقيدة تطلعُ
موجة عطاء (دورك أنت):
سؤال تقليدي يطرح نفسه بعد ذلك: ماذا أفعل وما دوري؟
والجواب باختزال:
- توبة من الذنوب والمعاصي، وعودة صادقة لله.
- تعرف على الواقع الأليم للمسلمين ونشر قضيتهم بكل سبيل.
- دعاء في أوقات الإجابة -سيما- وغيرها بالنصر والتمكين، ورفع الضر والبلاء عن المسلمين في كل مكان.
- التبرع بالمال إن أمكن والغذاء والدواء... الخ.
- الدعوة إلى الله فكلٌ على ثغرة (بالكلمة والخطبة والنصح والقلم... الخ).
وأخيرا نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعز الإسلام وأهله، ويذل الكفر وأهله، ويمكن لدينه في الأرض.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. www.salafvoice.com
|