حول معاني قوله تعالى
(( إن الله و ملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليماً ))
والكلام عن ذلك له وجوه متعددة :
الوجه الاول :
أن هذه الاية الكريمة اشتملت على الخبر أولاً ، و الأمر ثانياً :
أما الخبر فإن الله تعالى أخبر عباده في هذه الاية الكريمة بمنزلة هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم عنده في الملأ الأعلى , بأنه يصلي عليه عند المقربين هناك , و أن الملائكة كلهم يصلون عليه , وما ذاك إلا لفضله صلى الله عليه و سلم عند ربه , وعلو مقامه و شرف قدره في الملأ الأعلى .
ثم أمر سبحانه أهل العالم الأدنى بالصلاة و بالتسليم عليه ,و ذلك ليجتمع له الثناء و التكريم و التعظيم من اهل العالمين : العلوي و الدنياوي جميعاً, و قد ابتدئ الخبر بـ (إن) لتأكيد الخبر ولبيان عظمه.
و قد قال بعض أهل التحقيق : إن الاية الكريمة مشتملة على خبرين , كما اشتمل آخرها على امرين عظيمين :
اما الخبران :
فالأول : هو الخبر عن جناب رب العزة , و هو الله الكبير المتعال , بأنه هو يصلي على هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم.
والخبر الثاني : هو عن ملائكة الله تعالى , بأنهم يصلون على هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم
فالتقدير : إن الله يصلي على النبي , و إن ملائكته يصلون على النبي صلى الله عليه و سلم , و سبب هذا التقدير هو اختلاف حقيقة الصلاتين : صلاة الله تعالى ,و صلاة ملائكته , فإن صلاة الملائكة ليست هي كصلاة رب العالمين , و لا مشابهة بينهما.
و أما من جعل قوله تعالى : ( يصلون على النبي ) خبراً عن الله و ملائكته : فذلك من باب إطلاق المشترك على أفراده المختلفة , أو من باب عموم المجاز ,و لكن القول الاول أبلغ ؛ و للناس فيما يفهمون مذاهب.
و على كلا التقديرين : فإن الله تعالى يعلن لعباده كلهم فضل هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم , و شرف منزلته و كرامته عنده , فهو سبحانه يعلن ذلك في الملأ الاعلى , و ينزل هذا الإعلان الى عالم السماوات , ثم إلى عالم الأرض , فيدوي هذا الإعلان في جميع الأكوان , و تسجل هذه الآيات في صفحات الكائنات ، إعلاماً بأن هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم ؛ له شأن عظيم عند رب العرش العظيم.
وذلك أن الله تعالى هو يصلي على هذا النبي صلى الله عليه و سلم تشريفاً له و تكريماً , وتفضيلاً له و تعظيماً , و أن ملائكة الله تعالى يصلون على هذا النبي صلى الله عليه و سلم , تشرفاً بالصلاة عليه وتبركاً, و انصباغاً بأنوارها, و انغماساً في أسرارها.
فها هنا لما سمع أهل الملأ الأدنى بذلك استأنست قلوبهم , وتحركت هممهم و عزائمهم , لنيل شرف الصلاة على هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم , و نيل فضائل الصلاة عليه صلى الله عليه و سلم , والاقتباس من أنوارها , و الامتلاء من أسرارها , فنادى منهم لسان الحال المعبر عن حقيقة ما هم عليه :
يا رب ائذن لنا أن نتشرف بالصلاة على هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم , الذي تشرفت الملائكة بالصلاة عليه صلى الله عليه و سلم.
فجاء النداء الإلهي بقوله تعالى : (يا) للتنبيه , ( أيها) بالتأييه , و ذلك ليكون أقوى في التنبيه , لتلقي الأمر الذي يرد بعده , فقال سبحانه : ( ياأيها الذين أمنوا صلوا عليه و سلموا تسليماً ) فيكون ذلك من باب التشويق ثم التذويق , و الشوق إذا تقدم على الذوق يكون التذوق أكمل وأقبل , و أحلى و أعلى عند صاحب الذوق , جعلنا الله تعالى منهم.
و من المعلوم عند علماء اللغة العربية أن (يا) هي في الأصل لنداء البعيد , و أما القريب فينادى بالهمزة أو بـ (أي) , و لكن (يا) قد ينادى بها القريب , لتنزيله منزلة البعيد , وذلك :
إما لعلو مرتبة المنادي و عظيم قدره , ومن ذلك نداء الحق عباده بـ (يا).
وإما لعلو مرتبة المنادى , ومن ذلك قول العبد : ( يا رب ).
و إما من باب تنزيل المنادى القريب لغفلته و سهوه منزلة من بعد.
و قد كثر النداء في القران المجيد بـ (يا أيها) المشتملة على هاء التنبيه , لأن ما ينادي الله تعالى به عباده من : أوامره و نواهيه , ووعده ووعيده , هي أمور عظام , وخطوب جسام , يجب عليهم أن يتيقظوا لها و يميلوا بقلوبهم اليها , فاقتضت الحال أن ينادو بآكد النداء و أبلغه فإن قولك : ( يا أيها الرجل اتق الله تعالى ) أقوى و أبلغ من قولك : ( يا رجل اتق الله تعالى ).
قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله) وقال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ) و قال : ( يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليماً).
هذا و إن تعليق النداء على صفة الإيمان في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ) فيه الحث الشديد على امتثال الأمر الوارد بعد النداء , و أن ذلك هو مقتضى إيمانهم الذي اعتقدوه, و دينهم الذي التزموه , فمن ترك هذا الأمر و تخلف عنه فقد خدش إيمانه و عرضه للخطر , و هذا نظير قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا و ا سجدوا و اعبدوا ربكم و افعلوا الخير لعلكم تفلحون ), و نظير قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر و الصلاة ) الآية , و فيه تنبيه إلى أن قضية امتثال أمره تعالى في قوله : ( صلوا عليه ) هي قضية إيمان , و ليست هي قضية امتنان على هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم.
و الخبر في قوله تعالى : ( إن الله و ملائكته يصلون على النبي ) جاء بالجملة الإسمية , للدلالة على الدوام و الاستمرار , كما هو الأصل في مدلول الجمل الإسمية.
و المعنى : أن صلاة الله تعالى , و صلاة ملائكته على هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم هي مستمرة أبداً , لا تنقطع سرمداً.
و قال بعض المحققين : إن هذه الجملة ( إن الله و ملائكته يصلون على النبي ) تفيد الدوام و الاستمرار نظراً إلى صدرها , من حيث إنها جملة إسمية , و تفيد التجدد نظراً إلى عجزها من حيث إنه جملة فعلية , فيكون مفادها استمرار صلاة الله تعالى و ملائكته على النبي صلى الله عليه و سلم وتجددها وقتاً فوقتاً دون نفاذ و لا انقطاع . ( انظر تفسير الآلوسي وغيره ).
و الإتيان بوصفه صلى الله عليه و سلم دون اسمه في قوله تعالى : ( إن الله و ملائكته يصلون على النبي ) هو على خلاف الغالب في إخبار الله تعالى عن أنبيائه على نبينا و عليهم الصلاة و السلام , فقد جيء بذلك للدلالة على ما خص الله تعالى به هذا النبي الكريم صلى الله عليه و سلم من مزيد الفخامة و الكرامة , و علو المكانة و المقدار , و أكد ذلك بـ (أل) في قوله تعالى : (على النبي ) للإشارة إلى أنه صلى الله عليه و سلم هو المعروف الحقيق بوصف النبوة.
و بيان ذلك : أن الله تعالى أخبر عن الانبياء ورسله , و نادتهم بأسمائهم غالباً :
فقال تعالى لآدم عليه السلام : ( يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة ) الآية.
و قال تعالى لنوح عليه السلام : ( قيل يا نوح اهبط بسلام منا و بركات ) الآية.
وقال تعالى للخليل ابراهيم عليه السلام : ( و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا ) الآية.
و قال تعالى لموسى عليه السلام : ( يا موسى أقبل و لاتخف إنك من الآمنين ).
و قال تعالى لداود عليه السلام : ( يا داود إنا جعلناك خليفةً في الارض ) الآية.
و قال تعالى لعيسى عليه السلام : ( إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي ) الآية.
و أما نداؤه سبحانه و تعالى و خطاباته للحبيب الاكرم صلى الله عليه و سلم فلقد جاءت بألقاب المدح و الثناء , وذكره صلى الله عليه و سلم بوصف النبوة و الرسالة :
قال تعالى : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً و مبشراً و نذيراً )
وقال تعالى : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر )
و قال تعالى : ( يا أيها المزمل , قم الليل إلا قليلاً )
وقال تعالى : ( يا أيها المدثر , قم فأنذر ) ناداه بذلك ملاطفةً و مؤانسةً.
و هكذا الأخبار الإلهية عنه صلى الله عليه و سلم جاءت بوصف النبوة و الرسالة :
قال تعالى : ( لكن الرسول و الذين أمنوا معه جاهدوا بأموالهم و أنفسهم ) الآية.
و قال تعالى : ( واعلموا أن فيكم رسول الله ).
وقال تعالى : (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي والذين آمنوا) الآية.
ومن ذلك قوله تعالى : (إن الله و ملائكته يصلون على النبي ) الآية.
صلى الله عليه و سلم ,و في ذلك تفصيل له و تشريف , ورفعة لمقامه على غيره صلى الله عليه و سلم.
وقد أتي بأل المعرفة في قوله تعالى : ( على النبي ) للتنبيه إلى أنه صلى الله عليه و سلم هو المعروف الحقيق بهذا الوصف الخاتم لجميع النبوات , و للإشعار بعلة الحكم , وذلك أن منصب نبوته صلى الله عليه و سلم هو منصب شريف , و مقام منيف ,لا يعلم خصائص نبوته إلا الذي نبأه و أعطاه.
--------------------------------------------------------------------------------
ما أحلى الصلاة و السلام على النبي صلى الله عليه وسلم و الحمد لله